فصل: وجوه الإعراب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المعنى الإجمالي:

اذكر يا محمد لقومك قصة عبدنا أيوب إذ نادى ربه مستغيثا به، ضارعا إليه، فيما نزل به من البلاء، راجيا أن يكشف الله عنه الضر حيث قال: رب إني أصبت ببلاء وشدة، وتعب وضنى، وأنت أرحم الراحمين ورب المستضعفين؛ فاستجاب الله الحليم الكريم دعاءه، وكشف عنه شدته، فأذهب عنه الآلام والأسقام، وأمره أن يضرب برجله الأرض، حتى تنبع له عين ماء يكون فيها شفاؤه، وقلنا له: هذا مغتسل بارد وشراب، تغتسل منه وتشرب فتشفى بإذن الله، فلما ضرب الأرض نبعث له عين ماء، فاغتسل منها فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منها فذهب الداء من باطنه، فعادت إليه الحياة الطبيعية التي كان يعيشها، وشعر بأهله وأولاده، ونعم بأسرته التي كانت بالنسبة إليه كالمفقودة، ومتعه الله بصحته وقواه حتى كثر نسله وتضاعف عدد أولاده، ورزقه من الأموال فضلا منه ونعمة، وإكراما لعبده الصابر الطائع، وتذكيرا لعباد الله بفضل الله وإكرامه لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب- وهو أفضل أهل زمانه- وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا ومصائبها، واللجوء إلى الله عز وجل فيما يحيق بهم كما لجأ أيوب ليفعل الله بهم ما فعل به من حسن العاقبة، وعظيم الإكرام.
وما كان الله- جلت حكمته- ليكرمه ويدع زوجه التي أحسنت إليه، وأعانته في بلائه ومحنته، وكان قد حلف لأمر فعلته ليضربنها مائة جلدة، فجزاها الله بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها تسهيلا عليه وعليها فأمره أن يجمع لها مائة عود ويضربها ضربة واحدة، لا يحنث في يمينه.
ثم شهد الله تعالى لأيوب عليه السلام شهادة تبقى على مر الأزمان، مظهره أنه كان في بلائه صابرا، لا تحمله الشدة على الخروج عن طاعة ربه، والدخول في معصيته، فكان من خيره خلق الله وعباده، مقبلا على طاعته، رجاعا إلى رضاه، فلم يكن دعاؤه عن تذمر وشكوى، وإنما كان لجوءا إلى الله العلي القدير الذي بيده مقاليد السموات والأرض.
الغرض من ذكر القصة:
المقصود من ذكر قصة أيوب عليه السلام، وما قبلها من قصص الأنبياء الاعتبار بما يقع في هذه الحياة، كأن الله تعالى يقول: يا محمد، إصبر على سفاهة قومك، وشدتهم في معاملتك، ومقابلة دعوتك بالصدود والإعراض، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان- عليهما السلام- وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب- عليه السلام- فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لابد له من الصبر على المكاره.

.وجوه القراءات:

أولا: قوله تعالى: {أني مسني} قرأ الجمهور بفتح همزة {أني} وقرأ عيسى بن عمر {إني} بكسرها على تقدير: قال إني.
ثانيا: قوله تعالى: {بنصب وعذاب} قرأ الجمهور {بنصب} بضم النون وسكون الصاد، وقرأ الحسن {بنصب} بضمهما.
وقرأ بعضهم {بنصب} بفتح النون وسكون الصاد، ونسبها جماعة إلى أبي جعفر.
قال الطبري: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراءة الأمصار وذلك الضم في النون والسكون في الصاد.

.وجوه الإعراب:

أولا: قوله تعالى: {واذكر عبدنآ أيوب} عطف على قوله: {واذكر عبدنا داود} [ص: 17] من عطف جملة على جملة.
و{أيوب} عطف بيان، أو بدل من {عبدنا} بدل كل من كل.
ثانيا: قوله تعالى: {أني مسني الضر} [الأنبياء: 83] منصوب بنزع الخافض أي ب {أني مسني} حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك قوله لقال: بأنه مسه، لأنه غائب.
ثالثا: قوله تعالى: {رحمة منا وذكرى} رحمة مفعول لأجله، ومثلها {وذكرى} أي لرحمتنا إياه وليتذكر أرباب العقول بما يحصل للصابر من الفضل والأجر.
رابعا: قوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثا} عطف على {اركض} أو على {وهبنا} بتقدير قلنا خذ بيدك ضغثا.
قال الألوسي: والأول أقرب لفظا، وهو أنسب معنى، فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تكون إلا بعد الصحة واعتدال الوقت.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: في قصة أيوب عليه السلام كان قد حصل له نوعان من البلاء: المشقة الشديدة بسبب زوال النعم والخيرات، وحصول المكروه والألم الشديد في الجسم، ولما كان كل منهما قد لحق به وأصابه الضر بسببه، أحدهما مادي، والآخر جسدي، ذكر الله تعالى في الآية الكريمة لفظين النصب والعذاب ليقابل بذلك الضر الذي أصابه، فالنصب الضر في الجسد، والعذاب البلاء في الأهل والمال.
اللطيفة الثانية: وصف الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالصبر، وأثنى عليه بقوله: {إنا وجدناه صابرا} مع أن أيوب كان قد اشتكى إلى ربه من الضر الذي أصابه فقال: {مسني الضر} في سورة الأنبياء (83)، وقال هنا: {مسني الشيطان بنصب وعذاب} فدل ذلك على أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر، وقد قال يعقوب عليه السلام: {إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86] ولهذا مدحه الله بقوله: {نعم العبد إنه أواب} ولو كانت الشكوى إلى الله تعالى تنافي الصبر لما استحق هذا الثناء.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أني مسني الشيطان} أسند الضر الذي أصابه في جسمه وأهله، وماله، إلى الشيطان أدبا مع الله تعالى، مع أن الفاعل الحقيقي هو الله رب العالمين، فالخير والشر، والنفع والضر، بيد الله جل وعلا. ولكن لا ينسب الشر إلى الله وإنما ينسب إلى النفس أو الشيطان، ولهذا راعى عليه السلام الأدب في ذلك فنسبه إلى الشيطان، وهو على حد قول إبراهيم عليه السلام: {والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 79- 80] حيث نسب الإطعام إلى الله ونسب المرض إلى نفسه أدبا.
قال الزمخشري: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو.
اللطيفة الرابعة: سئل سفيان عن عبدين، ابتلى أحدهما فصبر، وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء، لأن الله تعالى أثنى على عبدين: أحدهما صابر، والآخر شاكر ثناء واحدا فقال في وصف أيوب {نعم العبد إنه أواب} وقال وفي وصف سليمان {نعم العبد إنه أواب} [ص: 30].
وفضل بعض العلماء: الغني الشاكر، على الفقير الصابر، لأن الغنى ابتلاء وفتنة، والشاكر من عباد الله قليل.
{وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] بخلاف الصابر فإنه كثير والمسألة فيها نظر.
اللطيفة الخامسة: يضرب المثل بصبر أيوب عليه السلام فيقال: صبر كصبر أيوب وقد صبر على البلاء في جسمه، وأهله، وولده مدة ثمان عشرة سنة على الراجح من الأقوال، ويروى أن زوجه لما طلبت منه أن يدعو الله أن يشفيه سألها: كم مكثنا في الرخاء؟ قالت سبعين عاما، فقال لها: ويحك كنا في النعيم سبعين عاما، فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عاما.
ويروى أنه قال لها: إني لأستحيي من الله أن أسأله أن يشفيني وما قضيت في بلائي ما قضيته في رخائي!!
ولهذا يضرب به المثل في الصبر.
اللطيفة السادسة: روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب: ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك».
قال بعض العلماء: حين صبر أيوب أكرمه الله بالمال الوفير، والأجر الجزيل، وعوضه عن الأهل والولد، بضعفهم وبارك فيهم كما قال تعالى: {فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} [الأنبياء: 84].

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هو سبب حلف أيوب عليه السلام بضرب أهله؟

دل ظاهر قوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} على أن أيوب عليه السلام كان قد صدر منه يمين على ضرب أهله، ويقول المفسرون إنه حلف لئن شفاه الله ليجلدن زوجته مائة جلدة، فأمره الله أن يأخذ قبضة من حشيش، أو حزمة من الخلال والعيدان، فيضرب بها ليبر بيمينه ولا يحنث، ولم تذكر الآية سبب هذا الحلف، وقد ذكر بعض المفسرين كلاما طويلا في سبب هذا اليمين، فقيل: إن امرأة أيوب كانت تخدمه وضجرت من طول مرضه، فتمثل لها الشيطان بصورة طبيب، وجلس في طريقها فقالت له: يا عبد الله إن هاهنا إنسانا مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم إن شاء شفيته، على أن يقول إذا برأ: أنت شفيتني، فجاءت إلى أيوب فأخبرته فقال: ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة.
وزعم بعضهم أن إبليس لقي زوجه أيوب فقال لها: أنا الذي فعلت بأيوب ما فعلت، وأنا إله الأرض، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله، فجاءت فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله.
وكتاب الله تعالى لم يأت فيه تفصيل للقصة، ولهذا انطلقت الخيالات تنسج قصصا في سبب بلائه وفي سبب حلقه على زوجه، منها ما هو باطل لا يصح اعتقاده ومنها ما هو ضعيف واهن.
يقول أبو بكر ابن العربي: ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة، وأنه طلب من ربه أن يسلطه على أيوب فقال له: قد سلطتك على أهله وماله.. إلخ إن هذا قول باطل، لأن إبليس أهبط منها بلعنة الله وسخطه، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى!!
إن هذا لخطب من الجهالة عظيم.
وأما قولهم: إن الله تعالى قال له: هل قدرت من عبدي أيوب على شيء؟ فباطل قطعا، لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس اللعين، فكيف يكلم من تولى إضلالهم؟!
وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده، فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة، وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان كسب فيه حتى تقر له- لعنة الله عليه- عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم، وأهليهم، وأنفسهم.
وأما قولهم: إنه قل لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت لي لعافيته.. فاعلموا أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام، ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافى من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟ ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها.
ثم قال: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين: الأولى قوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر} [الأنبياء: 83] والثانية في ص: {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب» الحديث وقد تقدم.
وإذا لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سمعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا.
أقول: ليس بلازم في ثبوت صبر أيوب اعتقاد أمثال هذه القصص الإسرائيلية، التي حشا بها بعض المفسرين كتبهن، ولا أمثال هذه الغرائب التي لا يصح سندها ولا نسبتها إلى الأنبياء الكرام لأنها تنافي العصمة ولا تتفق من المناصب الرفيعة للأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، ويكفي أن نقتصر على ما ذكره الله تعالى في كتابه، ونعرض عن مثل هذه الخرافات والأباطيل، كزعم بعضهم أن أيوب تساقط لحمه من شدة المرض، وأصبح الدود يخرج من جسمه حتى استقذره القريب والبعيد، ومله الصديق والغريب ولم يصبر عليه إلا امرأته، وأنه عظم بلاؤه حتى أخرج من بيته وألقي على كناسة مزبلة... إلى آخر ما هنالك من حكايات مكذوبة وقصص إسرائيلية تلقفها بعض القصاص، ودخلت إلى بعض كتب التفسير وهي مما تنافي عصمة الأنبياء.
والذي ينبغي أن يقتصر عليه المسلم أن ما أصاب أيوب من ضر إنما كان مرضا من الأمراض المستعصية، التي ينوء بحملها الناس عادة، ويضجرون من ثقلها، وخصوصا إذا امتد الزمن بها، وأن هذا المرض لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة، وأنه غضب على زوجه لأمر من الأمور فحلف أن يضربها مائة جلدة، فجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا، وسهل عليه الأمر فجمع لها مائة عود فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه، وكشف الله عنه ضره وبلاءه.

.الحكم الثاني: هل يباح للرجل ضرب امرأته تأديبا؟

استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا، وذلك لأن امرأة أيوب أخطأت في حق زوجها فحلف ليضربنها مائة جلدة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخيل أو بحزمة من العيدان، وذلك ليبر في يمينه ولا يحنث، ولو كان الضرب غير جائز لما أقره القرآن عليه ودله على ما هو أرحم.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز ضرب المرأة فوق حدود الأدب، ولهذا قال عليه السلام في حجة الوداع: «واضربوهن ضربا غير مبرح»، والجواز لا ينافي الكراهة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذأرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل النبي صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساء يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم».
قال الجصاص: والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزا بقوله: {والاتي تخافون نشوزهن} [النساء: 34] إلى قوله: {واضربوهن} [النساء: 34] وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديبا لغير نشوز وقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34] فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب، لأنه روي أن رجلا لطم امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أهلها القصاص فأنزل الله: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34].